الفرائض ومنزلة الانسان الوجودية – الفصل الثالث – ابو يعرب المرزوقي

Abou Yaareb thumbnail10887995_1525505701060696_441681945_n

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

الفرائض ومنزلة الانسان الوجودية

الفصل الثالث

أبو يعرب المرزوقي

تونس في 22-11- 1438/ 15-08-2017

تمهيد:
نشر هذا النص بتاريخ 31 – 03 – 2007 ونعيد نشره اليوم لأن الأستاذ أشار إليه في تعليقه على مناورة الرئيس حول المساواة في الإرث. وهو يعالج القضية فلسفيا ردا على إحدى زعيمات هذا التيار الذي يقود حملة المهمة التحضيرية بالتحديث المستبد للنخب الوصية للشعوب. وفيه ثلاثة فصول.
النص:
ومن يدرس العلاقة يجدها تمر بتوسط الحقوق التي تضبط أمرا يكون مشتركا بينهما له شيء من طبيعة حدي التوسط. فمن المنزلة الوجودية تنبع الحرية شرط إرادة الفعل في المجال الإنساني. ومن المال تنبع القدرة عليه في المجال الإنساني. فتكون العلاقة بين الملكية من حيث هي أداة الفعل والحرية من حيث هي علته وغايته أو العلاقة بين الإرادة وإحدى أدوات القدرة موضوع الحقوق التي تصل القانون الذاتي بالقانون الموضوعي ومن ثم تصل الذات من حيث أحد أبعاد منزلتها الوجودية بالملكية من حيث أحد أبعاد دورها في تحقيق أحد شروط الإرادة النافذة أي القدرة: فيكون الأمر كله متعلقا بحق تملك المال وبحرية التصرف فيه دون وصاية أيا كان مقداره وفي ذلك تتساوى المرأة والرجل في الشرع الإسلامي ولا أظن الأمر كذلك في أصل الشرع الذي أخذت الباحثة منه مثالها المحبب. ولن يختلف الأمر حتى لو كان كذلك إذ يكون التعلق بحرية التصرف وليس بمقدار المتصرف فيه.
أما تساوي المقدارين وحده فهو غير كاف ليكون في المقيس عليه دلالة أوضح مما في المقيس في هذه الحالة على القانون العام الذي يشتركان فيه أعني في التشاكل البنيوي المطلوب المعلل للنقلة من أحدهما إلى الآخر ومن ثم الممكن من العلاج. ولا أظن الكاتبة تستعوص مثل هذا الكلام فهو واضح حتى للمبتدئين في فنون العلاج الرياضي فكيف بالمتجاسرين على تفسير القرآن بمثل هذه الأقيسة العجيبة؟
وظني-والله أعلم- أن علة نصف الإرث عند ابن الزنا غير علة نصف الإرث عند البنت في الإسلام رغم علمي أن هذا النصف الأخير ليس معللا في أي نص قرآني اللهم إلا إذا حملنا محمل الجد ما استنتجته الكاتبة بتأويلاتها لتاريخ خصومة الإرث عند العرب في الجاهلية وفجر الإسلام. فكل هذه التأويلات أقل ما يقال فيها إنها ليست مبنية على قواعد سليمة كما سنرى في المسألة المنهجية الموالية. فعلة مقدار الإرث ينبغي أن تكون من جنس الموروث أعني أنها ينبغي أن تكون من خصائص الملكية الكمية وليس من كونها ملكية ولا من كونها دالة على الحرية التي هي مقوم من مقومات المنزلة الوجودية: فحرية التصرف في المال لا تقدر بمقدار المال بل بمقدار التصرف. ولا شك أن مدى فاعلية الحرية يمكن أن تقاس بمقدار المال في المجتمع الإنساني لتقدير المنازل الاجتماعية بمقداره وخاصة في المجتمعات الأليغارشية كالتي يحلم بها حداثيونا ويسمونها ديموقراطية: يصعب أن يفهموا التشريع المعد لمجتمع ذي قيم ارستوقراطية تشمل الجميع مجتمع للفضيلة فيه معنى وبها تحدد المنازل لأن معيارها التقوى في التعارف وليس التقية في التناكر.
وفي هذه الحالة تكون علة النصف في إرث ابن الزنى -والله أعلم- تقليد موروث عن العرف الفرنسي قبل الثورة بقي في لاوعي المشرع الفرنسي. فهو ابن من أم لم تدفع لأبيه ما يقابل الصداق عندنا لأنه لم يتزوجها قانونيا-كما هو الشأن في عرفهم المشار إليه ولا ننسى أننا نتكلم على من عندهم ما يورث ولهم القدرة على الزنا المعلن والاعتراف بالأبناء الطبيعيين بالمصطلح غير الديني ما دمت أتكلم بلغة الأكاديميين المتحررين من هذه المفردات غير المحايدة فلا معنى لوصف العلاقة بالزنا عندهم !- فلا يكون له من الإرث إلا نصف حق الابن الشرعي الذي يرث من الثروة بكاملها – أعني من ثروة الأب وفيها ثروة الأم التي انضمت إلى ثروته والتي يعد الصداق جزءها الأهم-وليس من نصفها. وهذا يبين أن النصف هنا عادل بإطلاق. لكن مثل هذا التعليل منعدم في الحالة الإسلامية: ليس للأب مبرر لحرمان البنت من النصف الذي خصم من حقها الكامل بمنطق الباحثة إذ حتى هذه الحجة التي وجدناها لنصف ابن الزنا ليس لها وجود لبنت الحلال! إنه حرمان تحكمي مائة في المائة: ليس من مبرر قابل للتصور من أصل الملكية نفسها كما في حالة ابن الزنا.
لكن الباحثة استعاضت عن العلة التي حددها الشرع الإسلامي بعلة استنبطتها بعملية تأويلية غير مشروعة منطقيا وفلسفيا سنأتي إليها لاحقا. فالعلة عندها ليست إلا مجرد تحيل ينصف به الشارع المفضول للمحافظة على منزلته الدونية أو مفضوليته. وهو عندها لن يتحرر إلا بالعدل الذي هو عندها المساواة وهي في عرفها فوق الإنصاف. وكنت في الحقيقة أظن الإنصاف أبلغ من العدل لأنه يتجاوزه إلى الإحسان فإذا بي أجده قد أصبح حائلا دون العدل والمساواة. فلا العدل هو أن تعطي المرء ما يستوجبه مقامه ولا الإنصاف هو أن تقسم معه مناصفة دون اعتبار للمنازل بل العكس هو الصحيح عند فيلسوفة الحقوق في فقه اللغة الحداثية: ربي زدني علما.
والمشكل الأهم في هذه الترجمة العجيبة أن الأستاذة لم تبحث في تعليل مناصفة ابن الزنا أصلا فضلا عن عدم الوعي بعدم تعليل مناصفة الإناث في الشرع الإسلامي. لكنها حاولت طلب التعليل من خارج النص واللجوء إلى أسباب النزول بدون رابط بين الآية وسبب نزولها كما حاولت طلبه من غير الآية إما في السنة أو في تاريخ الجاهلية. وهذا خروج عن مفهوم سبب النزول من أصله تسليما جدليا منا بأن سبب النزول يصلح تفسيرا لكون النصوص هي على ما هي عليه فيتجاوز كونه من دوافع إيجاد النص المعلومة وليس علة كونه على ما هو عليه.
وحاصل القول إن الترجمة لم تكن بهدف صوغ المعادلة التي تساعد في العلاج بل هي من جنس حيل الخطابة التي تعتمد على الاستشناع الخطابي من أجل الاستفظاع الدرامي المؤدي إلى إقناع المخاطب برأي الخطيب الذي أعيته الحجة بمقومات ما يصفه بخطابه. ولعله من فساد الذوق أن يقارن المرء شرعا مقدسا عند شعبه حتى وإن لم يكن المقدس ذا معنى عنده بمدنس حتى في الشرع الوضعي الذي اعتمده رغم كونه يجهل منه العلل والأسباب: فتكون الشريعة الإسلامية في مسألة إرث البنت أشنع من الشريعة الفرنسية في إرث ابن الزنا. ولما كانت ثروة الأب ليست له وحده في نظام الملكية التي أخذ منها مثال إرث ابن الزنا بل هي ثروة الوالدين كان من المعقول جدا ألا يحصل ابن الزنا إلا على نصف ما يحصل عليه الابن الشرعي. ولما كانت الباحثة قد تكلمت عن ابن الزنى دون بنت الزنا فإننا لن ندلي برأي حتى تفعل على ألا ننسى المساواة بين حظ الزواني والزناة حظهم من العلوم التي تقيس المنازل الخالدات بالفاني من الممتلكات.
المسألة الأخيرة
لعل فهوم الحداثيين لا تزال دون إدراك الفرق بين السبب والعلة. لعلهم لا يدركون أن السبب لا يعدو أن يكون الحدث العارض الذي يمكن أن ينبه الإنسان إلى أمر. لكن علة الأمر غير سبب إدراكه. فالأمران ينتسبان إلى سلسلتين من الأحداث مختلفتان تمام الاختلاف:
أولاهما متصلة بأثر وقعه يجري في مستوى الأحداث النفسية (=صغائر التاريخ).
والثانية لها تعلق بترابط الأحداث التاريخية (=عظائم التاريخ) الذي انتبه إليها الإدراك.
وهذا الأمر مقوماته ذات ترابط وجودي لا يُعلم إلا بما يكونه العقل من ترابط بين حدود منطقية مشاكلة للحدود الوجودية ويُجهل إذا ظنت علله راجعة إلى الأحداث النفسية. ولنضرب مثالا مشهورا حتى يفهم من يدعي الفهم من دون أسبابه: فلو صحت نظرية مفسري التشريع الإسلامي بأسباب نزول القرآن لكانت خرافة التفاحة التي سقطت على رأس نيوتن تفسيرا لبنية قانون الجاذبية!
لا فائدة من التذكير بدلالة المطلع الشهير لأشهر قصائد المتنبي. فتفسير جلائل التاريخ بصغائر أحداثه هو الأصل في الأهمية التي يوليها من يخلط بين أسباب النزول وعلل كون النازل هو على ما نزل عليه. ويذكرني هذا بموقف ابن خلدون ممن يفسر نكبة البرامكة بالعلاقة الغرامية بين العباسة والبرمكي وليس بالصراع السياسي بين العصبيتين العربية والفارسية. فعندي أن كل محاولات فهم التشريع القرآني بأسباب النزول-حتى لو توفرت وكانت العلاقة بين النص والأسباب ثابتة-لا تعدو أن تكون تفسيرا للتاريخ الكبير بالتاريخ الحقير: لذلك ترى كل الحداثيين يسترقون السمح لما يجري في بلاطات بلادهم لتفسير التاريخ بمقاسهم ماضيه كحاضره وجليله كذليله.
سأستسمح القارئ باستطراد مشروع في مثل هذه الحالات التي يكون فيها علاج المسائل البنيوية سانحة لعلاج المسائل الظرفية. فقبل الكلام على هذه المسألة العويصة أشير إلى مأساة-ملهاة ركحها أقسام العربية في الجامعة التونسية. فعلوم العربية التي هي أسمى علوم الأمة ماتت وعوضها شبه من التفلسف مربع قل أن تجد له مثيلا في الجامعات التي جعلها النقد الذاتي تتحرر من سلطان الدجل:
فبعض المختصين فيها أصبحوا فلاسفة تاريخ.
وبعضهم أضحوا فلاسفة حضارة.
وبعضهم أمسوا فلاسفة نقد.
وهم جميعا باتوا فلاسفة تشريع.
ولم يبق أحد في أقسام العربية مختصا في علوم العربية إذا أضفنا إلى هذا الرابوع الرطن بما يسمى اللسانيات بين قوم لا يكاد أغلبهم يجيد اللسان العربي حتى وإن صندق قواعده فضلا عن غياب تعدد الألسن الضروري لمثل هذه المهام. ووهم تفسير التشريع الإسلامي بأسباب النزول بدأها زعيم فلسفة التاريخ رغم كونه ينتسب إلى اختصاص العربية وتابعها زعيم فلسفة الحضارة رغم نفس الانتساب وأتمتها زعيمة فلسفة النقد رغم نفس الانتساب فصار عندهم الكلام في الفلسفة جزافا دون حساب: إذ كلهم يشتركون في جرأة التطفل على ما ليسوا مطالبين بعلمه جرأة لا يساويها إلا الجرأة على إهمال ما هم مطالبون بعلمه.
فهل الآداب العربية تعد إلى فلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة وفلسفة النقد إعدادا يؤهل أصحابها إلى الخوض في فلسفة التأويل والشرائع والأديان خوض العلماء؟ أم إن المنتسبين إليها يعبرون عن مواقف شخصية في حدود ما يضمنه حق التعبير الحر للمواطن بخصوص التشريعات التي تنتظم بها حياة الجماعة؟ لن أجادل إلا في الخلية الأولى من هذا الخيار. أما الخلية الثانية فلا جدال فيها. فحق المواطن حتى الغر حق مستقر له أن يقف ما اختار من المواقف. لكن أن يزعم البعض موقفه علما وأن يقدمه على أنه ليس موقفا شخصيا بل تأسيس لنظريات في فهم التشريع الإسلامي وتأويل مضموناته فيجعله مادة للتدريس الجامعي دون فهم لمعنى الفصل بين مجال النقاش العمومي بين المفكرين ومجاله الخصوصي لتدريس المضمونات العلمية في الجامعات فذلك هو ما أعتبره مأساة-ملهاة تجري على ركح أقسام العربية في جامعاتنا.
ولنستأنف البحث في قضية العلاقة بين أسباب النزول والنصوص النازلة. وحتى نعالج القضية بأكبر قدر ممكن من الحياد سنفردها فنجردها من بعديها التشريعي عامة والتشريعي الديني خاصة. لن نهتم بأسباب التشريع عامة (وضع القوانين) ولا بأسباب النزول (التشريع الديني) بل سنهتم بوقوع التقنين وأسبابه سواء كان الأمر متعلقا بوضع التشريعات (في مجال المعايير القانونية) أو بوضع النظريات (في النظريات العلمية).
فلنبدأ بالنظريات العلمية إذ هي أيسر على الفهم من التشريعات القانونية رغم كونها تقنين وإن كانت من جنس مختلف بمقدار ما فيها من محدد ينتسب إلى الموضوع يغلب على المحدد الذاتي. وهي أيسر على الفهم لأن هذا الترابط مع الموضوع رغم وجوده ليس ما يبدو منه سببا في وقوع التقنين علة في كون التقنين على الحال التي يكون عليها في النظرية العلمية. فلا شك أن بعض التجريبيين يتصور المعاينات التجريبيبة من أسباب وضع النظريات العلمية. لكني لم أسمع بواحد منهم-مهما طغت عليه النزعة التجريبية- ذهبت إلى أن يصير غفلا فيعتبر المعاينات علل كون القوانين العلمية هي ما هي رغم تسليمه بأنها أسباب وقوع التقنين. فالقوانين العلمية تخضع لمنطقين متعامدين:
1- أحدهما منطقي خالص هو تناسق النظريات في تواليها التاريخي (تاريخ بناء علم الفيزياء مثلا هو الذي يحدد المشاكل الفيزيائية وحلولها ومن ثم النظريات من حيث هي لبنة في جسم علم الفيزياء) وفي تساوقها الفني (التناسق مع فروع علم الفيزياء والعلوم الشارطة كالرياضيات والمشروطة كالكيمياء)
2- والثاني اقتصادي خالص هو النسق الأبسط والأقل مفروضات لعلاج أكبر عدد ممكن من القضايا التي يطرحها المجال الموضوع للعلم في تواليها التاريخي (التقليل من الشذوذ التجريبي في ظاهرات الموضوع) وتساوقها الفني (الاستفادة من تقدم العلوم الشارطة والعلوم المشروطة).
أما ما يسمى بأسباب الوقوع أو التجارب التي بموجبها يضطر العالم إلى مراجعة نظرياته أو وضع نظريات جديدة فهي من جنس المنبة الذي يوجه انتباه العالم وليست من جنس علة العلم الذي يصل إليه العالم لعلاج الأمر الذي نبهته إليه الأسباب. إنها تنبهه إلى أمر ينبغي أخذه في الحسبان دون أن تحدد كيفية أخذه في الحسبان: وكيفية الأخذ في الحسبان هي الإدراج في النص القانوني. فهذه الكيفية ينبغي أن تخضع للمنطقين المتعامدين اللذين أشرنا إليهما أي المحدد المنطقي أو ما يمكن أن يعتبر جوهر الأكسيومية التي هي صورة العلم والمحدد الاقتصادي الخالص أي ما يمكن أن يعتبر جوهر الفاعلية التي هي وظيفة العلم من حيث هو صورة علمية عن العالم من إبداع عقول العلماء وأداة فعل فيه لنفاذ القوانين إلى البنى الباطنة التي غالبا ما تكون الأسباب الظاهرة حاجبة لها لا كاشفة.
ولنأت الآن إلى التشريع. فهو يقبل القيس على ما يتصف به العلم من حيث هذين المحددين المؤثرين في كونه ما هو وتحرره من سبب الوقوع. فلا وجود لتشريع يتجدد في كل لحظة بمقتضى المنبهات الخارجية التي تمثلها أسباب النزول في حالة التشريع المنزل وأسباب الوقوع في حالة التشريع الوضعي: ويذكرني هذا الموقف بموقف فقهاء “عقاب زمان” الذين يتصورون الفقه لا يتطور إلا بالمنبهات الخارجية المنبهات التي يسمون الانتباه إليها فقه الواقع وهو في الحقيقة البديل من علم الواقع العلم الحقيقي فيكون فقه الواقع عين الجهل بطبيعة التشريع والواقع معا. فكل قانون جديد لا يتصل به سبب النزول أو الوقوع إلا بتوقيت التشريع وظرفه. لكن التشريع الذي سينتج بعد هذا التنبيه لن يكون محكوما إلا بالمحدد المنطقي والمحدد الاقتصادي بالمعنيين اللذين أشرنا إليهما في حالة القانون العلمي على الأقل من حيث صورته القانونية.
لا شك أن الكثيرين سيحتجون بأن القانون التشريعي عامل التأثير فيه الخفي أهم من هذين العاملين المحددين لصورته القانونية دون مضمونه القانوني: وهذا العامل هو علاقات القوة في المجتمع لأن القانون هو في الأغلب ترجمة لعلاقات القوة السياسية في الجماعة. وهم يحتجون هذا النوع من الاحتجاج لظنهم القانون العلمي خاليا من أثر علاقات القوة في المجتمع. فخيار الحلول في الحالتين خاضع للتناسق مع النسق العام للحضارة التي يقع فيها التشريع بحسب مجالاته الثقافية. الفرق الوحيد أن المحدد الذي من هذا الجنس في القوانين العلمية هو علاقات القوة في وسط الثقافة العلمية أو في الجماعة العلمية. فخيارات الحلول النظرية محكومة بعلاقات قوى بين مذاهب فكرية أو فلسفات يحكمها في الغاية خيارات عملية تعود إلى جنس الخيارات التي تحكم أخلاق الجماعة العامة ما كان منها واعيا أو غير واع أعني ما يسمى ب “المعروف والمنكر في ذلك المجال ” Sittlichkeit. وهي في التشريع علاقات القوة التي يبدو فيها هذا الطابع بأكثر وضوح لأنها تحدث في وسط الثقافة السياسية أو الجماعة السياسية التي مدارها الأخلاق العامة لجماعة من الجماعات.
وفي كل الأحوال فليس سبب النزول أو سبب الوقوع إلا المنبه أو ما يسمى بالفرنسية La cause occasionnelle ليس هو العلة الذاتية لما سيكون عليه القانون سواء كان علميا أو شرعيا بل هو المناسبة التي يأتي القانون لعلاجها بمنطقه الخاص وليس بما ورد في السبب من منبهات تعد السانحة التي وجهت الذهن إلى عرض من أعراض ما سيعالجه التشريع. فكل ما قاله طالبو التفسير بأسباب النزول يمكن أن يكون صحيحا من حيث التنبيه إلى ضرورة علاج المسألة التي يريدون تفسيرها. لكن تلك الأسباب لا تفسر كون ما يريدون تفسيره على ما كان عليه بل هي قد تفسر توقيت وقوعه وظرفه لا غير. لذلك فليس لما قالته الباحثة حول الإرث عند العرب وفي لحظة نزول الآية علاقة بما تم في آية الحد من حرية التصرف في الوصية. ولا يطلب المحدد إلى من مصدرين:
– الأول هو ما ورد في الآية نفسها وهو ما حللناه في المسائل الموضوعية الثلاث.
– الثاني هو روح التشريع الذي دلنا إلى المقصد الأول من التحديد الوارد في النص.
الخاتمة
كيف نفهم عدم الفهم عند من لا يميز بين سبب نزول النص (أو وقوعه في القانون الوضعي) وعلة ما نص عليه؟ وكيف ندرك عدم إدراك من يتصور الترجمة أداة تحليل كيفما اتفق فينتهي إلى التطفل على غير اختصاصه بمعان ثلاث؟ فمسألة المساواة في الإرث بين الرجال والنساء وإن كانت ذات صلة بقضية الجناسة والحركة النسوية-فتفهم دافعا للاندفاع وعدم الروية- فإنها لا تقتصر عليها بل تتعداها إلى ثلاثة وجوه يحق لأي إنسان أن يقف منها الموقف الذي يلائمه دون أن يزعم موقفه مستندا إلى معرفة علمية بل هو مجرد رأي. ليس يحق له أن يقدم مبررات موقفه وكأنها علوم بأسانيد فيها شبه من البحث الأكاديمي بما يرد فيها من مصطلحات رنانة تزعم عقلية (مثل المنزلة الوجودية ومنهج الترجمة طلبا للنبية العميقة والمسكوت عنه زعما باستعمال الهرمينوطيقا إلخ..) وتشخيصات تبدو انثروبولوجية فيما وراء أسباب النزول. فلا بد من علم متين في ثلاثة اختصاصات ليس لمن اختصاصه العربية حتى وإن زعم التفلسف في التاريخ أو في الحضارة أو في النقد الأدبي مقومات الكلام العلمي فيها خاصة إذا أصبح هذا التطفل حائلا دونه والتمكن من العلوم الأدوات ليخوض في العلوم الغايات:
– أولها حقوقي وقانوني
– والثاني منطقي وفلسفي
– والثالث عقدي وديني.
ولما كان الاختصاص الأخير أقل الثلاثة بعدا عن الالتزامات التي يصعب ألا يقع فيها الخلط بين الموقف والعلم بات التطفل عليها داء دويا وخاصة في المتطفلين على فلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة وفلسفة النقد فإني ركزت على الأولين ولم أجادل في الأخير رغم علمي بأن أكثر الناس هوسا بالهاجس الديني هم من يزعمون وقوف مواقف العلمانية: فلو اعتبرنا كثرة الكلام في المسائل الدينية حتى سلبا مقياسا لمعرفة الهواجس التي تدور في خلدهم لكانوا أكثر معاناة للمسألة الدينية ممن يزعمون إسلاميين في الحركات المتحمسة للفعل المباشر واستبدال النظريات الفلسفية بالثرثرات الإيديولوجية.
وحتى يتأكد من الحداثة الكاذبة في فكر الحداثيين العرب يكفي أن تسأل عن طبيعة الشرعية التي يستند إليها التشريع الوضعي الذي يريدون. فمن المفروض أن يكون البديل الوحيد من شرعية التشريع الذي تقول به أخلاق الجماعة التي ينتسبون إليها الشرعية الديموقراطية أعني إرادة الجماعة التي يريدون أن يفرضوا عليها آراءهم التشريعية. فهل يقبلون مثلا أن يعرض مقترحهم بالحد من حرية المالك في الوصية إلى غاية تتحقق فيها المساواة بين المرأة والرجل في الإرث على الاستفتاء الشعبي؟ طبعا سيكون ردهم: لكن الشعب جاهل ولا يفهم ما يفهمون. فيثبت من ثم أنهم ليسوا علمانيين بل قائلون بكنيسة العقلانيين الاستبداديين الذي يشرعون للشعب بديلا من الكهنوت الذي ينسبون إليه ما يعتقد الشعب أنه إرادة الله.
إنهم يقدمون أنفسهم على أنهم تحرروا من سلطان الكهنوت الزائف باسم إله وهمي حسب رأيهم بسلطان كهنوت أكثر زيفي باسم إله هو عين التزييف: العقل الذي لا يمتاز عن الرأي وعبادة الهوى إلا بالادعاء. أما خصومهم فيجمعون بين الشرعيتين: شرعية ما تؤمن به أغلبية الجماعة وشرعية ما تريده الجماعة شرعا لها لو استفتيت في تشريعاتها. لذلك فإنه لم يبق لهؤلاء غير شرعية الاستبداد الذين هم حلفاؤه موضوعيا وذاتيا مع “رفاه” المعارضة الصالونية التي لم تعد تنطلي على أحد وخاصة منذ أن تبين للجميع حلف أغلبهم مع رأس الطاغوت الروحي (إسرائيل أو/والفاتيكان) والمادي (فرنسا أو/والولايات المتحدة) في الحرب على حصانة الأمة الروحية بالعمالة الفاقدة لكل روح والعابثة بكل القيم باسم عقلانية قاصرة على أدنى شروط علوم العقل والنقل.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

أضف تعليق