تجفيف المنابع – معركة شعب الشباب لا نخب الأحزاب – أبو يعرب المرزوقي

تجفيف المنابع
معركة شعب الشباب لا نخب الأحزاب

أبو يعرب المرزوقي

تونس في 04 . 01 . 1437 – 18 . 10 . 2015


Abou Yaareb thumbnail10887995_1525505701060696_441681945_n


لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص




مقدمة: تجفيف المنابع والوضع الراهن

هذه المحاولة هدفها المباشر فهم السياسة الدينية التي تجعل الجمهورية الثانية لا تستفيد من فشل الجمهورية الأولى بل تكرر نفس السياسة التي قد تؤدي هذه المرة إلى ثورة غير سلمية لأن كل إفراط يؤدي حتما إلى الإفراط المقابل.
فالحرب على الكتاتيب وعلى المساجد وعلى الأيمة وفرض سياسة ستالينية في المسألة الدينية الخاصة بالإسلام دون سواه -إذ توجد مسيحية ويهودية مستقلتان تماما عن وزارة الشؤون الدينية- لا يمكن أن تكون مساعدة على تحقيق السلم المدنية فضلا عن المساهمة في التخفيف من دوافع ما يصفونه بالتطرف الديني والإرهاب.
لكن الهدف المباشر لا يفهم إلا بالأهداف غير المباشرة التي لا تتحقق إلا بالكشف عن الدوافع من وراء هذه السياسة. لذلك فلست أريد قصر المسألة على هذا الوجه وحده بل أريد البحث في جذور هذا الغباء السياسي منطلقا من مبدأ عام هو ما يمكن اعتباره من علامات النكوص إلى المسار العضواني في التطور بدل الانتقال إلى المسار العقلاني .
فالمعلوم أن المسار العضواني للتطور يفيد بأن الطفل لا يفهم نصح المراهق إلا بعيش المراهقة والمراهق لا يفهم نصح الكهل إلا بعيش الكهولة والكهل لا يفهم نصح الشيخ إلا بعيش الشيخوخة والشيخ لا يفهم نصح أرذل العمر إلا بعيشه : فلا يعلم أحد منهم من بعد علمه شيئا.
لذلك فالجمهورية الثانية بدأت بأرذل العمر. ومن ثم تكرر في آن مرض الشيخوخة (معركة خلافة بورقيبة) ومرض الكهولة (معركة خلافة ابن علي) ومرض المراهقة (معركة خلافة الترويكا) ومرض الطفولة (معركة الفروخ الحالية الجامعة بين المعارك السابقة كلها) في آن: تعيدها بمنطق أرذل العمر الذي لا يعلم من بعد علمه شيئا أي الذي لا يتعلم شيئا جديدا فيكرر الماضي بكفاءة أنقص هي عدم كفاءة أرذل العمر.
وهذه المعارك الأربعة تخفي المعركة الحقيقية التي أريد وصفها والتي لأجلها قامت الثورة أعني ما ينبغي أن نفسر به ما يجري حاليا في كل بلاد الربيع العربي وليس في تونس وحدها.
فلا يمكن أن ننسب ما يجري في تسيير الدولة الحالية -تونس وغيرها من بلاد الربيع العربي- سياسة تعالج ما حل بالبلاد من أعطاب وأمراض بعد ثورة سلمية في الجملة مثلت أفضل كشف طبي على الحالة الصحية لوظائف الدولة العشر التي تنقسم إلى خمس للحماية وخمسة للرعاية :

  • فوظائف الحماية الخمسة بينت الثورة أنها كلها معطوبة خربها الاستبداد والفساد فصارت تؤدي عكس دورها المحقق لحماية الأفراد بعضهم من البعض ولحماية الجماعة من الحكم والوطن من الأعداء :

فلا القضاء يقضي بالعدل ولا الأمن يؤمن تطبيقه في الداخل ولا الدبلوماسية تحمي المواطنين والمصالح في الخارج ولا الدفاع يدفع عن الوطن.
والجهاز الموحد لعملها والمحقق لشروط نجاحها أي الاستعلام والإعلام السياسي ليس حريصا عليها بل هو مجرد عين للحكم المستبد والفاسد على المواطنين لقمعهم واخضاعهم وحتى للاستعمار للتعاون بين المخابرات ولتبعية الأنظمة.

  • ووظائف الرعاية الخمسة بينت الثورة أنها كلها أكثر عطبا من وظائف الحماية لأنها هي الضحية الأولى لتغولها بسبب الاستبداد والفساد فلم تبق لها ما يمكن أن تحقق به الرعاية.

فلا التربية تربي الأفراد بالكفاءة ولا المجتمع يمدن الإنسان تكوينيا ولا الثقافة تثقف ولا الاقتصاد ينمي تموينيا بل كل ذلك في خدمة المافية التي صنعت فترينة على ساحل البلاد لاستعماع البنات والأولاد من الأوغاد باسم مكتسبات الحداثة ومبتذلات الثقافة.
والجهاز الموحد لعملها والمحقق لشروط نجاحها أي الاستعلام والإعلام العلمي (البحث العلمي) ليس حريصا عليها بل هو مجرد مكمل للوظيفة الاستعمارية التي تسمى المهمة التحضيرية للأنديجان ما جعل الجامعات مجرد مدارس إيديولوجية للحرب على الهوية.


تلك هي الوظائف التي تريد النخبة التي استبدت بالدولة حماية ما لها من سلطان عليها لتوظيفها خدمة لها ولحاميها بفضل الاستبداد والفساد ولا تريد إصلاحها ومن ثم فلا بد لها من سبل للتلهية عنها وآخر السبل التي عمت كل بلاد العرب هي ما يسمى بالحرب على التطرف الديني والإرهاب.
ولما تحقق ما يلغي هذه الحجة في البلاد التي حدثت فيها الثورة اي تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وتغلبت حركات شعبية ذات مرجعية دينية رافضة للتطرف والإرهاب وساعية لخوض المعركة السياسية بالطريقة الديموقراطية فاختارها الشعب لحكمه بكل طواعية بات من الواجب على المستفيدين من تهمة التطرف والإرهاب أن يصنعوهما صنعا بأجهزة مخابراتهم وبكل الطرق الممكنة.
وهذه الطرق نوعان لا ثالث لهما إلا التردد بينهما أو المزج بينهما بأقدار مختلفة بحسب الظروف :

  1. الطريقة الأولى هي التي طبقت في سوريا ومصر مباشرة: طريقة العنف المادي أي استعمال الحديد والنار ضد الشعب الثائر وتكوين منظمة إرهابية لتبرير سلوكها وسلوك الغرب في فرض استعماره ومساندتهم للبقاء في الحكم لا يقاتلونها لأنها أداتهم بل يقاتلون معها الثوار الذين لا يريدون إلا الإصلاح وفرض عليهم اللجوء للدفاع عن أنفسهم في مظاهرات السلمية طيلة سنة كاملة.
  2. الطريقة الثانية هي التي طبقت في تونس للعجز عن الطريقة الأولى : العنف الرمزي لاستفزاز الحركات الإسلامية بعد أن عجزوا عن استعمال العنف المادي إما لقصور في الأدوات أو لأن الجيش الوطني رفض أن يخون وطنه. والعنف الرمزي كان مقصورا على ما بيد الثورة المضادة من أدوات أي الإعلام والشارع.

ثم هم اليوم وقد افتكوا جهاز الدولة كله فبات الاستفزاز الرمزي مضاعفا إيجابا وسلبا:

  • فإيجابا هم يعينون كل المعادين لثقافة الشعب في الأماكن الحساسة وخاصة في الثقافة والتربية وتمكينهم من تحويل المؤسسات الوطنية إلى أدوات تخريب لثقافة الشعب.
  • وسلبا هم يعزلون كل من يشتم عليه رائحة الأصالة والتمثيل الوسطي لثقافة الشعب الروحية حتى يقطعوا صلته بمرجعيته الروحية وحتى يبلدوه بمن يختارون من الأيمة العملاء والجهلة.

وإذا كان العمل الأول يتم باسم المهمة التحضيرية لنخب تتصور الشعب أنديجان وهم مستعمروه يحضرونه حتى يجعلوه جديرا بما يسمونه مكتسبات الحضارة.
فإن العمل الثاني ليس إلا مواصلة لسياسة ما يسمى بتجفيف المنابع من الكتاب إلى إمام المسجد.
وهم يتصورون أن ذلك يمكن أن يحقق الهدف المتمثل في دفع الإسلاميين للثورة العنيفة حتى يتمكنوا من تحقيق ما يحلمون به ويدعوهم إليه مملوهم : النموذج المصري والسوري.
ولكن هيهات : فالقضية في تونس على الأقل تختلف اختلافا جوهريا لعلل كثيرة أريد أن أذكر أهمها مع التوكيد على أن الإسلاميين ينبغي ألا يردوا الفعل الغبي بوصفهم منتسبين إلى حزب معين بل أن يكونوا جزاء لا يتجزأ من شعب يرفض المساس بثقافته ضد هذين العملين المخربين لشروط مناعته الروحية والثقافية.
لذلك فالمعركة ليست معركة حزب أو احزاب اسلامية بل هي معركة شعب مسلم مع نخبة ورثت سياسة استعمارية تريد بها اغراقه في معركة زائفة ومهمة مستحيلة حتى تلهيه عن المعركة التي ثار الشباب بجنسيه من أجلها : معركة إصلاح وظائف الدولة العشرة التي وصفت لتحقيق شروط الحرية والكرامة.
والعلل التي تجعل المعركة في تونس مختلفة قابل للرد إلى صنفين :

  1.  الصنف الأول يتعلق بقوة الشعب الذي ثار ومضاء الخطة التي قادت مقاومتة إلى حد الآن.
  2.  الصنف الثاني يتعلق بالنخبة التي ورثت الاستعمار ووهاء الخطة التي قادت سعيها إلى حد الآن.

قوة الشعب ومضاء خطة مقاومته

صحيح أن مقاومة الشعب كادت تقع في خطأ كان يمكن أن يؤدي إلى النموذج المصري.
حاولت التنبيه إلى تجنب ذلك منذ البداية حتى قبل وصول النهضة والترويكا للحكم كتابة وشفاهة في الندوات التي خصصتها لاستراتيجية الإصلاح وانجاح الثورة باقل كلفة ممكنة.
وأحمد الله أن ما نصحت به صار معمولا به ولو في ظرف الاضطرار وليس في ظرف الاختيار.
ذلك أن التاريخ له سنن لا يكفي فيها الرأي بل لا بد من تفاعل القوى الفعلية : انتهى الرأي في حزب حركة النهضة إلى أنه من الحكمة توريط الصف المعادي في ما يسمى بعودة المانيفال : في كل ثورة تقع مرحلة ما يسمى بالراستوراسيون.
وأفضل طريقة للقضاء عليها هو توريطها السريع حتى تتحمل هي فوضى الثورة وما كشفته من عيوب للعهد السابق الذي يريدون استعادته.
فتسهيل هذه العودة هو الخطة التي تقضي على العائدين نهائيا لأنها تكشف حقيقتهم لشعب صار واعيا ومتابعا للشأن العام بفضل مخاض الثورة وآثار الولادة العسيرة للنظام الجديد الذي ما يزال وجوده ورقيا (الدستور وشعارات الثورة).
اليوم الشعب كله بات يدرك أن عودة النظام السابق التي حصلت بينت حدود ما كان يدعيه أزلامه ضد الثورة وحكم من ارتضاهم الشعب لقيادة الجمهورية الثانية.

ضعف نخبة الحكم ووهاء خطتها

لما عاد النظام القديم أي تحالف التجمع واليسار برز دور المافيتين الاقتصادية والعقدية (اليسار) فتبين لبعض الغافلين من الأحزاب التي انضمت إليهما في ما سموه جبهة الانقاذ أولا وللشعب ثانيا أن النداء لا يقود جمهورية ثانية بل هو يعيد افسد ما في الجمهورية الأولى.
ولم يكن ذلك باختياره لأن خطته لا يمكن أن تعتمد إلا على صفاته الذاتية ووضعه الموضوعي وهما لا يمكن أن يؤديا إلا إلى ماهو أوهى من بيوت العنكبوت :

  1. فأولا في رأس الدولة كان الوضع يفرض عليه أن يعيد الإشكالية التي قضت على نظام الحكم البورقيبي وأظهرت سنده الاقتصادي الذي هو نظام مافية الأعراف الاقتصادية فوحل النظام الآن في أوحال إشكالية الخلافة بين ثعالب المافيا الحاكمة.
  2. وثانيا في أداة حكمه كان الوضع يفرض عليه أن يعيد الإشكالية التي قضت على التجمع الحاكم وأظهرت سنده الاجتماعي الذي هو نظام مافية النقابة واليسار: تغير دور اليسار في الحزب من دور أداة إلى دور القيادة.

وبذلك فالنظام الذي عاد هو النظام السابق بعد أن فقد سر السيطرة على المعركتين في سنديه أو مافيتيه اللتين كان يحكم بهما في عهد ابن علي: مافيات من دون قائد قادر على التوفيق بينها.
لذلك فهم يبحثون الآن عن ابن علي جديد ولم يجدوه بعد. ويعسر أن يعيدوا ابن علي لأنه حتى لو عاد لن يستطيع السيطرة على أطراف المعركة.
لا بد أن تحسم المعركة في الميدان وهذا يقتضي تلهية للشعب وإعادته إلى ما قبل الثورة كأن يعتبروا المعركة هي بين الحداثة والأصالة.
ومن ثم فهموم الثورة ليست من أهداف الحكم الحالي وهمه الأول والأخير البحث عن التلهيات التي تغفل هذه الهموم وتعيد الساحة إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
ذلك أن النظام الحالي يبحث الآن عن تحقيق التوازن الذي يخفي ما ظهر من آليات النظام السابق التي يقوم عليها.
فالثورة كشفت عن وجهه الحقيقي وتلك هي الغاية من سعيي لإقناع الراي العام بضرورة تيسير الراستوراسيون حتى يفهم الشعب الذي صار واعيا باللعبة واجباته فيتصدى بنفسه ولا تتحول المعركة إلى ما تحولت إليه في مصر حرب الكل على الأخوان.
فالحكم هو حكم مافية اقتصادية بتحالف مع مافية يسارية هدفها توطيد التبعية الاقتصادية والسياسية والقضاء على العامل الوحيد المعيق لذلك أي العامل الثقافي أو الهوية العربية الإسلامية.

خاتمة: معركة الشعب والشباب

فإذا فهم شعب الشباب بجنسيه ذلك فإن المعركة تصبح معركته وليست معركة حزب إسلامي أو التونسي من حيث هو مسلم بل التونسي من حيث هو تونسي يدافع عن استقلاله السياسي والاقتصادي والثقافي ورمز ذلك كله هو حفاظه على ما يجعله متميزا كشعب ذي هوية هي عين ذاته حتى لو لم يكن مسلما مطبقا لفروض الإسلام.
ولهذه العلة فإني أنصح بعدم الوقوع في فخ معركة المساجد بالرد عليها حزبيا.

المساجد والكتاتيب والهوية مسألة وطنية تهم كل التونسيين.

  • المساجد يحميها مرتادوها أي المصلين وحقهم في ذلك مضمون دستوريا.
  • والكتاتيب يحميها الأولياء الذين يختارون لأبنائهم أي نظام تربية بحرية مضمونة دستوريا.

وكل مقومات الهوية وخاصة اللغة والتاريخ هم وطني وليس خاصا بحزب دون حزب. وهو هم الشباب بجنسيه الشباب الذي فجر الثورة وهو مستعد للدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة.
وأستطيع القول إن الرستوراسيون عمرها قصير وقصير جدا لأنها بهذه السياسية تحفر قبرها بيدها وتذهب إلى حتفها بضلفها.
وأخيرا فإن وزارة الشؤون الدينية مغلوبة على أمرها فلا معنى للتركيز على وزير مسكين لا ناقة له ولا جمل في ما يحصل.
وفي الحقيقة لو كان لوزارة الدين معنى لكانت وزارة الأديان لا الدين مادام الحداثيون يزعمون أن تونس متعددة الأديان لكنهم يخفون أن الدينين الآخرين لا يحكمهما النظام التونسي بل هما فوق السيادة الوطنية بدليل أن الوزارة لا تتدخل في سياستهما ولا تكتب القداس كما تريد أن تكتب خطب الجمعة ولا تعين القسس في الكنائس والبيع بل لعلهما هما اللذان يعينان حتى الوزراء.
تفوه على الجمال إذ تستنوق.


تجفيف المنابع
معركة شعب الشباب لا نخب الأحزاب

أبو يعرب المرزوقي

wpid-fb_img_1425908597217.jpg


يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic
بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


رأي واحد حول “تجفيف المنابع – معركة شعب الشباب لا نخب الأحزاب – أبو يعرب المرزوقي

أضف تعليق