لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
التراث
معرفته وتحديد دوره التاريخي
– القسم الثاني –
– الفصل الخامس –
أبو يعرب المرزوقي
تونس في 1438.09.26 – 2017.06.21
المقال
كيف يمكن استخراج كل التراث الإنساني في أي جماعة مما سميته المعادلة الوجودية؟
وكيف نثبت أن هذا التراث الإنساني يجمع أبعاد الكون شاهده وغيبه؟
فنفهم دلالة الآية 53 من فصلت التي تعتبر آيات الله في الآفاق والأنفس هي التي تبين أن القرآن حق، وأنه يشمل الأفعال الخمسة للاستعمار والاستخلاف.
عقيدة الإعجاز القرآني لا يوجد دليل عليها أفضل من هذا الدليل، لضعف القول بالإعجاز العلمي والاعجاز البلاغي، فالمستقبل قد ينفيهما بالممكن عقلا.
والدلالة هي التطابق بين ما يستخرج من المعادلة الوجودية التي هي بنية وعي الإنسان من حيث هو إنسان، وبين بنية القرآن ومضمونه بمقتضى فصلت 53.
فلنحاول بيانه بدءا باستخراج ما يتعلق بالأفعال الخمسة من المعادلة منطبقة على حدودها: الله والإنسان والعالم الطبيعي والعالم التاريخي والوصل.
فالتراث النظري والعملي وتطبيقاتهما في الحضارة الإنسانية، مدارها نظرية الرب (ثيولوجيا)ونظرية الإنسان (انثروبولوجيا)وصلتما مباشرة وغير مباشرة.
وغير المباشرة تشمل العالم الطبيعي (كسمولوجيا) والعالم التاريخي (كل ما أضافته الإنسانية للعالم الطبيعي) والوصل بين عناصر المعادلة الأربعة.
وهذا الوصل غير المباشر يكون بفعلي النظر والعمل في مجالات الفعل الخمسة، أي السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى التي تتعلق بعناصر المعادلة الأربعة.
لكن الوصل المباشر هو الأصل، لأنه هو الذي يؤسس اللامباشر ويكون على ضربين:
– إما الإنسان بالقطب الإلهي
– أو تألهه متصورا نفسه رب العالم: إيمان-الحاد
وكما أسلفت في بعض الدراسات، فالإلحاد متعذر بالجوهر. لذلك فالملحد يتأله حتما فيظن نفسه ربا، إما احتجاجا على الظلم في العالم، أو مشاركة فيه.
والضرب الأول يقول بفعلين إلهيين هما أساس الطبائع وأساس الشرائع، أي العالم الطبيعي والعالم التاريخي وهما فعل الخلق-والإعدام والأمر-والنهي.
والضرب الثاني ينفي الفعلين، ويعتبر الإيجاد والإعدام والأمر والنهي كلها أفعال الطبيعة أو الصدفة، وليس وراءها رب خالق للطبيعة والتاريخ وشارع لهما.
وبذلك يتبين أن نظرية الرب لا تعدو أن تكون أحد هذين الضربين اللذين هما موقف واحد من وجهيه الموجب والسالب مما وراء نظام الطبيعة والتاريخ.
وهذه هي الإشكالية الجوهرية المشتركة بين الدين والفلسفة، لأنها في الحالتين شرط تأسيس النظر والعمل أو العلم والأخلاق في تراث الإنسان الحضاري.
والثيولوجيا اثباتا ونفيا للرب الخالق والآمر، تنتج عن انثروبولوجيا قائلة بما في فصلت 53 أو مستغنية عنه اقتصارا على التولد الطبيعي والصدفة.
وبذلك يكون مفهوم الانثروبولوجيا (نظرية الإنسان) منطلق كل فكر في الأبعاد الأربعة الباقية، أي في الرب والطبيعة والتاريخ والوصل بين العناصر.
ولا بد أن كل من قرأ القرآن بتدبر، قد وجد أن العلاقة بين القطبين الرب والإنسان هي المحور الرئيس في القرآن الذي يدرس التراسل بينهما قولا وفعلا.
وأقصد بالإنسان هنا الفرد والجماعة في آن. لذلك جاء في سورة العصر أن الاستثناء من الخسر يجمع بين فعلين فرديين وفعلين مشتركين، واصل يوحد بينها.
فالإيمان والعمل الصالح فعلان فرديان لا مشاركة فيهما. والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، مشاركة في فعلين جمعيين. والأصل طلب الاستثناء من الخسر.
وأهمية العلاقة بين قطبي المعادلة، مباشرة كانت أو غير مباشرة، تبرز من أسماء الله الحسنى وما يناظرها من أسماء الإنسان المتأرجحة بين الحسن والقبح.
وهذا التأرجح بين الحسن والقبح هو مجال ممارسة الحرية الإنسانية، التي تضفي معنى على التمييز بين الخلق والأمر: الحرية هي أن المأمور يطيع أو يعصي.
وتلك علة التمييز بين الربوبية والألوهية عند المؤمنين، لكن الملحدين ينفون الرب فضلا عن الإله لأن البديل هو الطبيعة أو الصدفة وتربب الإنسان.
ولنكتف بالمقابلة بين الصفات الخمس: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. كلها مطلقة وكاملة إذا وصف بها الله. ونسبية وناقصة إذا وصف بها الإنسان.
وبهذا المعنى، فالصفات التي تشتق منها أسماء الله الحسنى قابلة للرد إلى هذه الصفات الخمس. والصفات التي تشتق من وصف القرآن للإنسان، ترد إليها.
والفرق الوحيد هو اطلاقها وكمالها في وصف الله، ونسبيتها ونقصها في وصف الإنسان: مثلا الله فعال لما يريد، والإنسان لا يستطيع أن يفعل كل ما يريد.
وهذا التطابق في الصفات والاختلاف في تكييفها ليس كميا فحسب: فصفة القدرة مثلا لا تختلف كميا، بل كيفيا من جنس اختلاف الزمان مع الدهر أو السرمد.
وبصورة أوضح ليس اللامتناهي قدرا أكبر من المتناهي، بل هو طبيعة ثانية مختلفة تماما. لأن الأكبر يبقى قابلا للإحاطة به، أما اللامتناهي فلامحدود.
ومع ذلك فمبدأ ليس كمثله شيء يعني أن المماثلة الحاصلة في بادئ الرأي، هي في نسبة الرمز إلى المرموز: وهو معنى آية. أي إنها رمز ما هي آيته.
وإذن وخاصة في هذه الصفات الخمس، يمكن القول إن الإنسان رمز أو آية تشدنا إلى ذات الله وصفاته بما يشبه العينة المتناهية من اللامتناهي الإلهي.
ولعل هذا هو المعنى العميق للاستخلاف: الإنسان من حيث هو إنسان خليفة بمعنى خلافة الرمز للمرموز. ولأضرب مثالي نظرية رمز الفعل وفعل الرمز.
فالعملة (رمز الفعل) ليس فيها شيء مما ترمز إليه-ورقة أو قطعة نقدية-ترمز لقدرة شرائية ليست من طبيعة الورقة أو القطعة بل هي ما ترمز إليه وفي حدود سريان فاعليتها. فهي ترمز إلى كل ما يمكن شراؤه بها مما يحتاج إليه الإنسان من بضائع وخدمات، فتكون آيتهما في جيب مالكها في نطاق سريانها.
وفعل الرمز أو الكلمة، تؤدي معنى هي آيته أو رمزه لكنها ليست معنى. بل آية معنى أو حامل معنى، وخليفته عند المرسل والمرسل إليه في التواصل اللساني والمعنى الواحد يقال بعدة ألسن، فإنه يكون متعدد الرموز أو الآيات الدالة عليه دون أن تكون إياه. ولولا ذلك، لاستحال التواصل بين الشعوب بالترجمة.
لذلك قالت فصلت 53 إن الله يرينا حقيقة القرآن في آياته بظهورها في الآفاق (الطبيعة والتاريخ والنفس) في الأعيان وفي الأذهان (نفسها في النفس)
استخلاف الإنسان يعني أنه آية ترمز إلى المطلق دون أن تكون مماثلة له. لأنها من آيات ظهوره وهي الأسمى بمنطوق القرآن من كثير مما خلق الله.
المعادلة:
-
الله قطب أول
-
العالم الطبيعي وسيط أول
-
التاريخ وسيط ثان
-
الإنسان قطب ثان
-
الوصل الصاعد (أفعال الإنسان) والنازل (الرسالة).