دروس في فلسفة الدين د 02 من 35 – مفهوم فلسفة الدين و نبذة عن تاريخ الإختصاص 01 من 02 – أبو يعرب المرزوقي

دروس في فلسفة الدين د 02 من 35 – مفهوم فلسفة الدين و نبذة عن تاريخ الإختصاص 01 من 02 – أبو يعرب المرزوقي

مقدمة

لا يمكن أن نفهم تاريخ الفكرين الديني والفلسفي إذا أبقينا على المقابلة بين النحل ضمن الدين الواحد أو على المقابلة بين الملل ضمن الظاهرة الدينية الكلية ولم نرتفع إلى مستوى التصور الكوني للدين كما يدعونا إلى ذلك القرآن الكريمi. ولحسن الحظ فقد فهم العقل الإنساني ذلك الآن بفضل تقدم الوعي الفلسفي بوحدانية الدين ليس من حيث هو إحدى خصائص الإنسان النوعية في جنس الحيوان بل وكذلك من خلال مقارنة ثوابت الأشكال التاريخية لتعيناته المشعرية والعقدية في التاريخ الفعلي للمارسة الدينية لكل الجماعات البشرية التي أمكن للعلم استقراؤهاii. فقد ألتقى في تكوين فلسفة الدين مساران:

1- أولهما انطلق من تطور الفكر الديني تطوره الذاتي إلى أن بلغ مرحلة الرسالة التي يعتبرها القرآن الكريم حصيلة الرسالات السابقة ومن ثم خاتمتها. وذلك بفضل إعادتها كل الرسالات إلى الفطرة الإنسانية في صلتها بالمطلق حيث يلتقي الدين الطبيعي بالنور الطبيعيiii.

2- والثاني انطلق من تطور الفكر الفلسفي إلى مرحلة الفلسفة التي تعتبرها صيغها النسقية الأخيرة حصيلة الفلسفات السابقة ومن ثم خاتمتها. وذلك بفضل إعادة كل الفلسفات إلى الفطرة الإنسانية في صلتها بالمطلق حيث يلتقي النور الطبيعي بالدين الطبيعيiv.

وبصورة أدق فإن المسارين نتجا عن الجدل بين الفكرين الفلسفي والديني في موطن مولدهما الذي أشرنا إليه الجدل الذي كان الطور الأوسطv غاية طوريه الأولينvi أعني فكر المسلمين الإسلامي بشقية أعني محاولات الفهم النابعة من القرآن والسنة وعلم الكلام النابع من الفكر الفلسفي الذي هو في نفس الوقت بداية طوريه الأخيرينvii. لذلك فلا بد من بحث المسألة من هذه المداخل الثلاثة:

1- من مسار تطور الفكر الديني بمنطقه الخاص.

2- ومن مسار تطور الفكر الفلسفي بمنطقه الخاصviii.

3- ومن مسار الجدل والتأثير المتبادل بين مساري الفكرين: منطق الجيئة والذهاب بين النظر والعمل وبين المنطقين السابقين منعزلين ثم متأثرين التفاعل بينهماix.

وهذا المسار الثالث هو المسار الذي اعتبره أصل المسارين البسيطين ومعللا لما مر به كل منهما من مراحل أوصلته إلى فلسفة الدين الفلسفية وفلسفة الدين الدينية اللتين تلتقيان في الترابط الثابت بين فلسفة التاريخ المقدس والتاريخ العادي رغم تقدم الأول على الثاني في العروض التاريخي وفي الحقيقة التصورية بل تصور الأول كان مصدر تنظيم الثاني حتى في أكثر التصورات المادية للتاريخ لأن بدءها بنقد التصور الديني للتاريخ يقتضي تقدم الأمر المنقود على فعل نقدهx.

المسار الأول, منطق فلسفة الدين الدينية

أشرنا إلى أن ظاهرتين حددتا نشأة فن جديد انفصل عن محاولات الفهم الديني بفرعيها المنطلقين من الآيات النصية إلى بحث أوسع منطلقه الآيات الكونية التي تعد الآيات النصية والتاريخية صنفين من أصنافها.

الظاهرة الأولى

1- وقد حدثت أولى الظاهرتين في القرآن الكريم نفسه نصه الذي يعرف الإسلام بكونه إصلاحا للتحريف الديني وعودة إلى الأصل الصافي الواحد المشترك بين كل الأديان (أي السؤال الذي أتى في القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام: عدم كفاية المتناهي والفاني وطلب اللامتناهي والباقي أو المتعالي المطلق) مزيلا بذلك الفواصل بين الأديان الطبيعية والأديان المنزلة ومؤسسا كلية الظاهرة الدينية إيجابا على مفهوم الفطرة وسلبا على تخليص البشرية من وساطة السلطة الروحية بين المؤمن وآيات ربه.

الظاهرة الثانية

2- وأما الظاهرة الثانية فحدثت في إصلاح المسيحية إصلاحها الذي حاول العودة بالمؤمن إلى الاتصال المباشر بالنص المقدس في محاكاة واضحة للثورة الإسلامية وردة فعل على فكرها ودورها التاريخي في أوروبا نفسها أولا (المؤثر الخارجي) وعلى فساد المؤسسة الدينية المسيحية وعلاقتها المتوترة مع السلطان السياسي (المؤثر الداخلي) ثانياxi. لكن الإصلاح كما نبين لاحقا تحول إلى تحريف مضاعف: فهو تحريف للتحريف في الاتجاه المقابل أو بلغة نيتشوية مجرد قلب للقيم بجعل السعي إلى الخلاص من المحايثة في المسيحية المحرفة سعيا إلى الخلاص من المفارقة والغرق في السيلان الأبدي الذي هو منطق الإصلاح المحرف الذي تأسست عليه الحركة الجنونية لإرادة القوة.

ويبرز التماثل الشكلي بين الحركتين إيجابا بالعودة إلى آيات الله النصية والكونية وسلبا بنقد المؤسسة الدينية نقدا يخلص المؤمنين من هيمنتها على النفوس بالسلطان الروحي الذي تستمده من التوسط بين الله وعبيده. ولعل أفضل ممثل للتماثل بين الحركتين محاولة تحرير البشرية من التنافي المطلق بين الحياة الدنيا والحياة الروحية التي لم تبق أمرا يستثني القيم الدنيوية بل يضفي عليها المعنى ويسمو بها فلا يكون ذا وجود من دونهاxii فضلا عن محاولة الربط بين الديني والسياسيxiii.

فالإسلام سعى إلى تخليص الإنسانية من هذا السلطان وحلل علل تكونه ونتائجه وآلياته في سورة آل عمران تحليلا لو أدرك المسلمون معناه ومغزاه لما حصل لهم ما آل بهم إلى أسفل سافلين. فالسلطان الروحي للمستحوذين على الحقيقة الدينية يحرف الأديان من أجل خدمة مصالح أصحاب السلطان الروحي في تحالفهم مع أصحاب السلطان السياسي فيعود بالإنسانية إلى نموذج الدولة الفرعونية حيث يكون هامان خادما لفرعون الذي يجزل له العطاء مقابل استعمال سلطانه الروحي لإخضاع الناس بدل تحريرهم من الطاغوتxiv.

ومن جنس هذه الثورة القرآنية يبدو مشروع الإصلاح في مسيحية القرن السادس عشر. فمحاولة تخليص المسيحيين من فساد الكنيسة وسلطانها والسعي إلى جعل المؤمن على صلة مباشرة بآيات الله وأولها النص الديني من دون وسطاء معصومين فضلا عن العلاقة الجديدة بين الديني ممثلا للقيم المتعالية على التاريخي والسياسي ممثلا لتعيناتها التاريخية كان يهدف إلى استرجاع دور العقل والتدبر دورهما الذي هو البديل من السلطان الروحي كما دعت إلى ذلك كل آيات القرآن الكريم. لكن هذا الإصلاح بمقتضى مبادئ العقيدة المسيحية نفسها انقلب إلى ضده لأنه لم يتمكن من إزالة علل الفساد بل هو أزال عنها الملطفات التي صاحبت التحريف السابق في المسيحية وأضاف إليه تحريف اليهودية:

1- فعقيدة بنوة عيسى لله لم تبق أمرا رمزيا فحسب بل هي أصبحت تأليها فعليا للإنسان ومن ثم استبدادا بالكون والتاريخ ليس للخلافة فيه والعناية بله بل للفساد في الأرض.

2- وامتناع شمول التأليه كل البشر في التصور فضلا عنه في الواقع أدى إلى تحول التأليه إلى استعباد البعض للكل أي التحقيق الفعلي لنظرية شعب الله المختار.

وانطلاقا من هاتين الثورتين المتماثلتين شكلا كان لا بد أن يصبح فرع فلسفة الدين أو التفكير العقلي المتدرج نحو البحث العلمي الوضعي في الظاهرات الدينية من مشاغل الفكر الفلسفي بعد زوال الحاجز المائز بين الفكرين الديني والفلسفي عند كلا الفريقين النابع من الفكر الديني الخالص والنابع من الفكر الفلسفي الخالص الفكرين اللذين التقيا وإن بصورة محرفة لم ترتق إلى ما يسعى إليه القرآن الكريم: كل فكر فلسفي اليوم فكر ديني متنكر وكل فكر ديني فكر فلسفي متنكر. فكلاهما كان ينبغي أن يكون مجاهدة شخصية ومجاهدة جماعية بالمعنى القرآني سواء كان ذلك في الملة الواحدة أو بين الملل. لذلك فكل من يقرأ القرآن الكريم بعين فاحصة سيجد فيه أمرين مهمين هما أصل كل تفلسف في الأديان وقيمتين أساسيتين هما أساس التوالج المتزايد بين الدين والدنيا في الحياة اليومية ومعانيها الوجودية وفي الحياة السياسية ومعانيها الخلقية:

الأمر الأول: التحرر من الوسطاء بين المؤمن وربه

والاتصال المباشر بآياته سواء كانت مخلوقاته الطبيعية والتاريخية أو نصوصه التي بلغها رسله والتي هي آيات من القوة الثانية لأنها تحدد الموقف من الآيات التي من القوة الأولى في القيم الخمس ذوقا ورزقا ونظرا وعملا ووجودا. ويعني ذلك التحرر أن المؤمن يجرب بنفسه المعاني التي تعبر عنها الآيات النصية التي لا تفهم من دون التحقق في ذات متدبرها ليدرك الآيات الكونية إدراكا شخصيا فيكون إيمانه صلة مباشرة بربه ولا تكون سنن الأنبياء إلا نماذج من التجربة الخلقية الموصلة إلى الحقيقة الدينية والوجودية بالإضافة إلى تبليغهم مضمون الرسالة.

الأمر الثاني: اعتماد التأمل العقلي بعد هذا التحرر في أهم مسألتين

كان الأوصياء في الدين يعتبرونهما حكرا عليهم قتلا للبحث العقلي وحصرا للعلم في مضغ السنن النقلية الخالية من التأمل الذاتي للمؤمن فتحولت من ثم إلى تبرير لشرعية الحلف الطاغوتي بين سلطان السلطة الروحية بحجة وراثة العلماء للأنبياء وسلطان السلطة الزمانية حتى صارت هذه تدعي هي بدورها الحق الإلهي في الحكم أدعاء تلك الحق الإلهي في النطق بمقاصد الله عقيدة (المتكلمون) وشريعة (الفقهاء) وجمعا بينهما (المتصوفة).

القيمة الأولى: التوالج بين قيم الدين وقيم الحياة الدنيوية

في حياة الأشخاص العاطفية والفكرية ومعانيها الوجودية والتوالج بين قيم الدين وقيم الحياة الدنيوية في حياة الجماعات الاجتماعية والسياسية ومعانيها الخلقية.

القيمة الثانية: الحرية الدينيةxv

بدرجة وصلت إلى اعتبار الدولة الإسلامية راعية لعدة شرائع ومطالبة بموقف يتراوح بين الإرجاء في التعامل مع الحقيقة الدينية والتسامح مع الأديان الأخرى بما فيها الشركxvi وبين تبرئة أصحاب اغلب الأديان المعروفةxvii.

المسألة الأولى : أصل المدخل الفلسفي لكل معرفة طبيعية تنتهي إلى المعرفة الخلقية

فالبحث في الوجود الإلهي من منطلق آياته أعني الوجود عامة والوجود الطبيعي والوجود التاريخي والواسطة بين هذه الوجودات الأربعة أعني الوعي والإدراك والمعرفة والتدبر لا يمكن إلا أن ينتهي إلى الدلالات الخلقية لنظام الوجود الطبيعي ولنظام الوجود التاريخي. وتلك هي مسائل الفلسفة والدين على حد سواء مع تقابل في الترتيب بين النظامين: 1- الوجود عامة 2- الله  3- الطبيعية والعالم  4-الانسان والتاريخ 5- الادراك والعلم.

المسألة الثانية : المدخل الديني لكل معرفة خلقية تنتهي إلى المعرفة الطبيعية

والبحث في السنن النقلية المتعلقة بهذه المجالات في الدين الواحد (مباحث النحل) وفي الظاهرة الدينية ككل (مباحث الملل) على حد سواء لا يمكن إلا أن ينتهي إلى نفس النتيجة. وتلك هي علة وجود الفن الذي يسمى بمباحث الملل والنحل المباحث التي انفصلت تدريجيا عن علم الكلام وبدأت تتجه نحو علم مقارنة الأديان.

لكن المسعى الأول انتكس فآل إلى الفلسفة الشكلية الخالصة قصدت التأسيس المعرفي والمنهجي لسلطان الأدوات المحدود في الغايات الكلية سلطانها ببعديه الوضعي النظري ( فلم يبق من العلم إلا دور الخادم المطيع للرغبات الدنيوية أو التكنولوجيا) والوضعي العملي (ولم يبق من العمل إلا الخادم المطيع للنزوات الدنيوية أو الإيديولوجيا). والمسعى الثاني انتكس فآل إلى الدين المضموني الخالص قصدت التأسيس العقدي والسلوكي لسلطان الغايات المحدودة على الأدوات الكلية سلطانها ببعديه العقدي النظري (فلم يبق من العقيدة إلا بنود التعليم الكلامي المذهبي خادم الدنيا أو سلطان المذهب الكلامي) والشرعي العملي (فلم يبق من الشريعة إلا بنود التعليم الفقهي المذهبي خادم الدنيا أو سلطان المذهب الفقهي).

وبذلك انتكس المسعى الثاني فآل إلى إيديولوجية المفاضلة بين النحل داخل نفس الملة وإلى إيديولوجية المفاضلة بين الملل دخل الظاهرة الدينية ككل. وبين أن المآل الثاني يؤدي إلى الصراع الديني بين الشعوب بدل التعارف وأن المآل الأول يؤدي إلى المفاضلة بين النحل في نفس الملة. وذلك هو ما أعاد الأمة إلى الفتن الطائفية بين القبائل في جميع التقاليد الدينية المعلومة في التاريخ.

وقد حصلت الانتكاسة عندنا لعلتين:

علة إنتكاسة المسعى الأول

لأن الوسطاء الروحيين استعادوا سلطانهم إما صراحة كما هو الشأن عند الشيعة (الإمام وفقهاؤه) أو ضمنيا كما هو الشأن عند السنة (الخليفة وفقهاؤه).

علة انتكاسة المسعى الثاني

ولأن علم الدين قد انحط فصار علم كلام أي مجرد دفاع عن نحلة في ملة أو ملة بين الملل في الظاهرة الدينية عامة بدل من أن يكون كما هو في الأصل طلبا للحقيقة في المسألتين اللتين هما مطلوب الفكر الديني والفكر الفلسفي على حد سواء رغم اختلاف الأساليب كما سنرى.

وبذلك فالتمييز بين الأمرين واجب. ففلسفة الدين فرع من فروع الدراسات الفلسفية مثل فلسفة الفن أو فلسفة العلم وفلسفة الأخلاق. أما الدين الفلسفي فهو خيار الفيلسوف الديني وهو جزء ضروري من النسق الفلسفي عندما يكون تاما بحسب السنن الفلسفية المعروفة.

الملاحظات

iكونية الظاهرة الدينية ووحدتها في القرآن الكريم هما أساس محاورة الرسول لنصارى نجران في آل عمران وهما المبدأ الأساسي في الدعوة الإسلامية التي تحاول من بداية القرآن إلى نهايته بيان دعوى واحدة: أن جميع الرسالات لها مضمون عقدي واحد وأنها لاتختلف إلا بالشرائع التي هي السبل المتعددة لتعدد الظروف خلال المحاولات الساعية إلى تحقيق نفس العقيدة. ولولا نكد المتكلمين لكانت الناس أمة واحدة بداية وغاية: فبداية هي كذلك بنص القرآن خبرا. وغاية هي كذلك بنصه إنشاءً. البداية حاصلة. والغاية مطلوبة التحصيل وواجبة الحصول لصدق الختم والوعد بإرث الأرض للمؤمنين. لكن ذلك لا يكون ليس بالكلام بل بما حددته الآية 125 من النحل تحديدا للمنهج وتعليلا لكونه ما ينبغي أن يكون.

iiتقدم الوعي الفلسفي خلص الفلسفة من التصور الوهمي للمعرفة العقلية المنافية للمدارك الحدسية سواء كانت ذوقية جمالية أو ذوقية وجودية وتقدم الوعي الديني خلص الدين من وهم المفاضلة بين التعينات الدينية بمعيار آخر غير معيار التدرج في تحقيق التطابق بين التصور والتحقيق أو بين الصورة المثالية للعبادة وتعيناتها التاريخية.

iiiتاريخ الدين الإسلامي يمكن تحديد مقوماته من ضروب القصص القرآني ومن دركه لمراحل الوحي. ويمكن اعتبار أهم مقوم لهذا التاريخ علاقة الرسالتين المحرفتين (اليهودية والمسيحية) بالرسالتين الأصلين (الآدمية والنوحية) ومنزلة إبراهيم مركزا بين الأوليين والأخيرتين ودلالة العودة إليه في ذاتها ثم في تحديد طبيعة الخطاب القرآني الذي يغلب عليه السؤال المعرفي الوجودي الكوني والتوجه الكوني للإنسانية قاطبة بل وإلى كل الموجودات حيها وجامدها.

ivوليكن المثال تصور هيجل لعلاقة تاريخ الفلسفة بتاريخ الدين كما يحدده في فينومينولوجيا الروح وفي محاضرات فلسفة الدين ومحاضرات تاريخ الفلسفة ومحاضرات فلسفة التاريخ والمبادئ الأساسية لفلسفة الحق.

vالطور الأوسط بين الطورين الأولين والطورين الأخيرين هو علم الكلام الإسلامي. وعلينا أن نثبت أمرين حتى يتبين للقارئ المقصود بالطور الأوسط بين مرحلتين مضاعفتين. فما قبل علم الكلام الإسلامي يمكن حصره في مرحلتين أولاهما تقدمت على تعميم الحضارة الفلسفية اليونانية على المشرق بفضل الغزو المقدوني وتمسح النخب المؤثرة في سياسة الدولة المهيمنة فيه والثانية ما ولي ذلك إلى نزول القرآن الكريم ومحاولات الكلام حرف النهج القرآني فحال دون البلوغ إلى مستواه ومن ثم نكص بفكر الأمة إلى الكلام السابق على نزول القرآن سعيا إلى تأسيس سلطان روحي يقسم الناس إلى خاصة وعامة ورعاة ورعية. وما بعد التجربة الإسلامية يمكن كذلك حصره في مرحلتين ما قبل الإصلاح البروتستنتي ومابعده. فما قبل الإصلاح كان محاولات للتصدي للحضارة الإسلامية وما بعده يمكن اعتباره استئنافا للدين المسيحي من منظور شبيه بالمنظور الإسلامي ولكن مع تفوق نقدي وفكري يحصل دائما عند من يؤسس على مرحلة بتجاوزها حتى وإن صاحب هذا التفوق الفكري بحكم الإفراط إلى تدن خلقي واضح لما حصل فيه من انتقال مما يكاد أن يكون نفيا للدنيا إلى ما يكاد أن يكون نفيا للآخرة. وعلينا الآن أن ندرس خصائص المرحلة الوسطى كما عرفها ابن خلدون في تاريخه لعلم الكلام. فعنده أن علم الكلام انتهى إلى الامتزاج التام مع الفلسفة بعد الرازي وعنده أن مهمة الكلام الدفاعي انتهت بحيث إذا جمعنا بين المقولتين يصبح الكلام الوحيد المتبقى هو الكلام الفلسفي فلم يعد أي معنى للتمييز بين فلاسفة الإسلام جميعهم ومتكلميه المتأخرين. ورغم أن الكلام الإسلامي قد تأثر بالكلام اليهودي والمسيحي المتقدمين على نشأته فإن الكلام اليهودي والمسيحي المتأخرين على الإسلام واضحا التأثر بالكلام الإسلامي المتفلسف. ويكفي دليلا على ذلك كتاب دليل الحائرين الذي اعتبر ابن تيميه صاحبه غزالي اليهود وكل كتابات القديس طوما الاكويني ودانس سكوت المتأثرين شديد التأثر بابن سينا والغزالي وابن رشد.

viالطوران الأولان هما طور الفلسفة اليونانية القديمة من بدايتها إلى تكون الأفلاطونية المحدثة ومنها إلى نزول القرآن.

viiالطوران الأخيران هما: علم الكلام المسيحي المتقدم على الإصلاح إلى أن تحققت صيغته الفلسفية في الكنطية ثم ما بعد ذلك وخاصة المثالية الألمانية وما نتج عنها من إيديولوجيات شمولية وأخص بالذكر منها أربعة كلها بنت التنوير ورد الفعل عليه في الرومانسية والمثالية الألمانية: الفاشية والنازية والاشتراكية والرأسمالية.

viiiالدرس الثالث

ixالدرس الثالث

xفالإنسوية التي تعتبر غاية التاريخ في المادية الجدلية هي عينها وإن بقول رمزي نظرية تسخير الكون للإنسان واستخلافه فيه مخصوم منها ما نتج عن التفريط أي القدسية والدلالات الروحية ومضاف إليه ما نتج عن الإفراط أعني تأليه الإنسان والكفر بالرحمن.

xiوينبغي أن نعترف بأن ردة الفعل هذه كانت مثمرة حقا لأنها كانت أكثر وعيا بشروط التخلص الموجب من المؤسسة الدينية من دون الحذف المبدئي سدا للذرائع والإبقاء الواقعي في أشكال متنكرة تحافظ على كل مصادر الفساد التي من اجلها وقع الحذف المبدئي. ولنشرح المقصود: فالنقد المحتج في الإصلاح المسيحي لم يلغ الكنيسة بل ألغى سلطانها ونظم وجودها وعلاقتها بالدولة. لكن المسلمين ألغوا الكنيسة الغاء كاملا دون أن يدركوا ضرورة وجود مؤسسة دينية بالشروط التي حددها القرآن. فكان هذا الحل غير المحلل عقليا علة في عودة ما هو أفسد حتى من المؤسسة الكنسية قصدت المرجعية الشيعية وسلطة المتكلمين والفقهاء عند السنة. وقد جمع التصوف وجهي التحريف الشيعي والسني فكاد ذروة الداء الذي تعاني منه الأمة. والسلطة الدينية في تاريخنا الفعلي أفسد حتى من الكنيسة لأنها تستمد سلطانها الوحيد من شروط لا تؤدي إلا إلى انحطاط الأمة. ولعل أهم هذه الشروط وأخطرها هو تعميم الجهل والتناحر حول القشور العقدية والتعبدية ونسيان ثمراتها الفعلية حتى صار الشعب عامة يقاد من خارج بشعارات كلها نفاق ودجل: فلكي يكون لرجال الدين المراجع السلطان الذي يريدون لا بد من تعميم الجهل من حولهم وإلا فإنه لا معنى للوظيفة التي يريدون أن يجعلوها ضرورية لحياة المؤمنين بمعنيي التوسط بين المؤمن وربه وبين المواطن ومن صاروا يسمونه بولي الأمر دون أن يوليه أحد لكأن ولاية الأمر يمكن أن تكون مشروعة من دون أن تستمد من أصحاب الأمر الذين وصفهم القرآن الكريم بكونهم أصحابه لأن الأمر شورى بين المؤمنين.

xiiأشار هاينهHeine شاعر ألمانيا الكبير إشارة بليغة إلى هذا المعنى في تاريخه للرومانسية وتعليقه على التقابل بين المسيحية الكاثوليكية وحركة الإصلاح بالقياس إلى قيم الإسلام ومؤلفات جوته في تبرئة قيم الحياة الدنيا دون إهمال قيم الحياة الأخرى.

xiiiلكن هذا الربط الذي هو مبدئي في الإسلام كان ثمرة الظرف في الإصلاح المسيحي لكونه نتج عن تأييد أصحاب السلطة السياسية الثورة على السلطة الدينية التي كان تهيمن في العصور الوسطى. فالتحالف المعلوم بين لوثر وولي العهد في القيصرية الالمانية هي التي جعلت حركة لوثر ضد الكنيسة تؤتي أكلها. لكن العلاقة المبدئية في الإسلام جعلت تكوين الدولة مساوقا لصوغ الرسالة بل إن صوغ الرسالة كان أحد أبعاد المشروع السياسي المتمثل في التطبيق الفعلي لنظرية التدافع من أجل تحقيق القيم في التاريخ. فلا يمكن تصور الدعوة الدينية من دون المشروع السياسي والدولة التي تحقق مؤسسات الدعوة بمعناها الإسلامي: سلطة سياسية فوق الشرائع المتعددة رغم كونها تقول بوحدة العقيدة التي ينبغي أن تكون كونية بالضرورة لكونها عقيدة الوحدانية الفطرية أو الإسلام الفطري. لذلك فكل محاولات المقارنة بين المسيحية والإسلام لا يمكن أن تكون ذات فائدة بسبب هذا الفارق الجوهري الذي أشار إليه ابن خلدون عند التمييز بين الخلافة والبابوية والكوهنية:” والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معا. أما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنما وقع الملك لمن وقع ( له ) منهم بالعرض ولأمر غير ديني وهو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب والملك بالطبع لما قدمناه لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم” ( المقدمة ص. 1967 ص.408).

xivوالمعلوم أن الآية 256 من البقرة قرنت الإيمان بالله بالكفر بالطاغوت معتبرة ذلك تبينا للرشد من الغي واستمساكا بالعروة الوثقى أي بالإسلام.

xvالبقرة 256

xviالأديان المرجأة أصحابها الحج 17: “إن الذين آمنوا والدين هادوا والصابئين و النصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة

xviiالأديان الأربعة المبرأة أصحابها بالإضافة إلى الإسلام طبعا تبرئة تامة أو إرجائية (بشرط الإيمان والعمل الصالح): البقرة 62 والمائدة 69


دروس في فلسفة الدين د 02 من 35 – مفهوم فلسفة الدين و نبذة عن تاريخ الإختصاص 01 من 02 – أبو يعرب المرزوقي

wpid-fb_img_1425908597217.jpg

أضف تعليق